سورة المائدة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}.
التفسير:
الوسيلة.. والتوسل بأصحاب القبور:
وبين يدى هذه العقوبة الراصدة للذين يحادّون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، تجىء دعوة للمؤمنين أن يثبتوا على ما هم عليه من إيمان وتقوى، وأن يعملوا ما وسعهم العمل على الاقتراب من اللّه، بالعمل الصالح والجهاد في سبيله، حتى يبتعدوا أكثر ما يمكن عن هذه المهالك، التي تأخذ المفسدين بأنواع النّكال والبلاء.
والدعوة إلى السلامة والنجاة، في الحال التي يشهد الإنسان فيها مصارع الظالمين والبغاة، هى دعوة مستحابة، تتلقاها النفوس حفية بها، حريصة عليها.
حيث هى الحبل الممدود لنجاة من يمسك به، في هذه الريح العاصف، التي تنزع الناس، وتلقى بهم في مهاوى الهلاك.
والوسيلة: هى ما يتوسل به إلى اللّه تعالى من الأعمال الصالحة التي ترضى اللّه، وتدنى الإنسان من ربه.
فالوسيلة في اللغة، ما يتوسل به إلى أي أمر ابتغاء تحقيقه، وجمعها وسائل، ولكل أمر وسائله وأدواته التي يتوسل بها إليه، فمن أخطأته الوسائل، لم يبلغ من أمره ما يريد.
وتقوى اللّه هى مطلوب كل مؤمن باللّه، ورغيبة كل طامع في رضا اللّه، ساع إلى مرضاته.
ولهذا فقد أمر اللّه تعالى الذين آمنوا، بالتقوى، في قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}.
فليس الإيمان- مجرد الإيمان- هو الذي يطلب من المؤمن، ليكون في عباد اللّه المؤمنين، وإنما الذي يحقق الإيمان، وينضج ثمرته، هو التقوى.
والتقوى هى اجتناب محارم اللّه، وامتثال أوامره، أو هى كما عرفها بعض العارفين: ألّا يراك اللّه حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك.
والتقوى على تمامها مطلب صعب المنال، غالى الثمن، لا يقدر على الوفاء به إلّا من رزقه اللّه قوة الإيمان، وثبات اليقين، ووثاقة العزم.. تلك هى بعض الوسائل التي يتوسّل بها إلى التقوى- ولهذا جاء قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} معطوفا على قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا اللّه بابتغاء الوسائل المؤدية إلى التقوى.
وهنا ما يسأل عنه: كيف جاء النظم القرآنى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} إذا كان المراد بالوسيلة ما تحقق به التقوى.. إذ لو كان الأمر كذلك لجاء النظم القرآنى كهذا: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ..}.
كيف هذا؟
والجواب على هذا، هو أن التقوى هى تقوى اللّه، ووسائلها التي تتحقق بها هى وسائل موصلة إلى اللّه، مدنية من رضاه ومغفرته.. فليست التقوى.
والأمر كذلك- مقصودة لذاتها، وإنما هى مرادة لما هو أولى بالمؤمن أن يتعلّق به، ويعمل له، وهو القرب من اللّه، والنزول في رحاب رضوانه.. فابتغاء وسائل التقوى هو في الحقيقة ابتغاء للوسائل المؤدية إلى رضى اللّه، ومن ثمّ كان عود الضمير إلى اللّه سبحانه وتعالى، لا إلى التقوى، التي هى بدورها وسيلة إلى التقرب من اللّه! وأمر آخر من أمر الوسيلة.. نريد أن نقف قليلا عنده.
فقد ذهب كثير من العلماء، وخاصة علماء الشيعة، إلى أن المراد بالوسيلة هنا هو التوسل بآل البيت- رضوان اللّه عليهم- والاستغاثة بهم، واللّجأ إليهم في الملمّات.
وعن هذا المنزع ما يأخذ به بعض المسلمين أنفسهم من التوسل بالأموات، ممن يعتقد في صلاحهم، واستقامة سلوكهم في الحياة، فيلمّون بقبورهم وأضرحتهم، طالبين قضاء حوائجهم التي قصرت عنها أيديهم.
والذي يأباه الدّين هنا هو ما يتخذه كثير من أولئك الذين يزورون قبور الصالحين وأضرحتهم، من التمسح بهذه المواطن، ومناجاة الراقدين فيها، وطلب الغوث منهم، حتى ليكاد المسلم يذهل عن اللّه في هذا الموقف، وحتى لكأن هذا الإنسان الصالح هو الذي يتصرف في هذا الكون.. إن شاء أعطى، وإن أراد منع! أمّا أمر زيارة قبور الصالحين، فهو إن تجردّ من هذه المشاعر، وخلص من تلك التصورات، ووقف به الزائر عند حدّ العبرة والعظة، بذكر الموت الذي تذوقه كل نفس، ويرد مورده كل إنسان، فذلك مما لا بأس به، إذ يكون الإنسان- وهو في معرض يذكّره بالموت- أمام صورة طيبة، لسيرة عبد من عباد اللّه الصالحين، الذين أصبحوا ذكرا طيبا على ألسنة العباد.. ولعلّ في هذا ما يدعوه إلى الأسوة، والسّير على طريق الصالحين.
ومع هذا، فإن الضعف البشرى، والجهل بما للّه وما للعباد، قد يحمل بعض الناس ممن يلمّون بقبور الصالحين، على ألا يذكروا شيئا من هذا، وألا يستحضروا الموت في هذا الموقف، إذ قد يتمثل لهم أن صاحب هذا الضريح لم يتحول بعد إلى تراب ضائع في التراب، وأنه بكيانه كله لا يزال يلقى الناس ويلقونه، ويأخذ ويعطى.. ومن هنا كان الأولى بمن لا يعرف كيف يحمى نفسه من هذا المزلق، ويحرسها من هذا الضلال- أن يتجنّب زيارة الأضرحة، ليدفع عن إيمانه عوارض الضعف ودواعى الشرك.
ولا بأس هنا من أن ننقل ما ذكره الشّوكانى عند تفسيره لهذه الآية، قال: قد أكثر الناس من دعاء غير اللّه تعالى، من الأولياء، الأحياء منهم والأموات.. مثل يا سيدى فلان أغثنى.. وليس ذلك من التوسل المباح في شىء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك، وألّا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا، وإلّا يكنه فهو قريب منه.. ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعوّ الحىّ الغائب، أو الميت المغيّب، يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم فالحزم، التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من اللّه القوىّ الغنىّ الفعّال لما يريد.
ثم يقول: ومن وقف على سرّ ما رواه الطبراني في معجمه، من أنه كان في زمن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم- منافق يؤذى المؤمنين، فقال الصديق- أبو بكر رضى اللّه عنه- هيّا بنا نستغيث برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: «إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث باللّه».
من عرف سرّ ذلك لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلّبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقى ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرّنك أن المستغيث بمخلوق، قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة من اللّه عزّ وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة ممن استغاث به.. هيهات هيهات، وإنما هو شيطان من أضلّه وأغواه، وزين له هواه...
وهذا الذي يقوله الشوكانى هو الذي يجب أن يؤمن به كل مسلم، في نظرته إلى أصحاب القبور، وإلى من يعدّه من الصالحين، وذوى الكرامات فيهم.
إنهم جميعا في عالم وراء هذا العالم الذي نعيش فيه، شغلوا بما هم فيه من نعيم أو بلاء، وإنّهم لأشدّ حاجة إلينا منا إليهم، بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.. حيث أننا- أعنى الأحياء- في دار عمل وابتلاء، يتقبل اللّه منا أعمالنا، ويحصيها علينا، ويحاسبنا عليها، وهم قد صاروا إلى عالم قد انقطع عنهم كل عمل فيه، فلا يضاف إلى أعمالهم التي عملوها في الدنيا شيئا جديدا من كسب أيديهم في عالمهم الأخروىّ.. فكيف والحال كذلك يكون لهم كسب يضاف إلى غيرهم، من قضاء الحوائج، وتفريج الكروب؟.
ولا شك أن كثيرا ممّن يلمّون بمقابر من يعتقدون في ولايتهم وصلاحهم، تستولى عليهم في تلك الحال مشاعر، توحى إليهم بأنهم على مداناة وقرب من اللّه، وأن ما يدعون به مستجاب، وأن وراءهم من أمداد الصالحين والأولياء، ما يزكىّ دعاءهم عند اللّه، وينزله منازل القبول.
وهذا، وغيره من المشاعر المختلطة التي تستولى على الإنسان، في تلك الحال- من شأنه أن يبعث الراحة والطمأنينة في الإنسان، ويعلّله بالأمل والرجاء، وهذا بدوره عامل نفسىّ له أثره الإيحائى الذاتي، الذي تتغير به نفسية الإنسان، وتتبدل مشاعره، وفى ذلك شفاء له من كثير مما كان يكابده ويشقى به.
والعلاج بالإيحاء أمر معروف مشهود، وما يجده الذين يزورون أضرحة الأولياء والصالحين، من روح وراحة لا يعدو أن يكون ضربا من الإيحاء النفسىّ، سواء أكانت وارداته من خارج النفس أو داخلها.
ولعلّ في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} ما يشير إلى شيء من هذا الذي يعرف بالإيحاء النفسي.. فالإنسان تتغير حاله، ويتبدّل سلوكه نحو شيء ما إذا تغيّرت مدركاته له، ومشاعره نحوه.. وكذلك شأنه في جميع أحواله، حيث يقوم تعامله مع الأشياء على أساس من إدراكه لها، ومشاعره نحوها، فإذا تغيرت تلك المدركات تغيّرت تبعا لذلك مواقفه منها، وسلوكه معها.. وشأن الجماعات في هذا، هو شأن الأفراد سواء بسواء.
على أن الذي نودّ أن ننّبه إليه هنا، هو ما يتطابر من شرر أو شرّ بين الذين يلتقون على خلاف في مجال التوسّل بالأنبياء، والأولياء والصالحين.
فهذا الشّرر كثيرا ما يمتدّ إلى هؤلاء، الذين اختلف المختلفون في التوسل إليهم، بين مغال في التوسل، وبين مبالغ في تحريمه وفى تكفير من يتوسلون!.
ففى الطرف المغالى في التوسل يرمى دعاته وأنصاره بالقول جزافا، يكيدون به للطرف المقابل، الذي ينازعهم فيه، ويتهمهم بمرض قلوبهم، وفساد دينهم.
وإذا هم يبالغون ويبالغون فيما هم فيه، حتى ليبلغ بهم ذلك إلى حد الشرك الصّراح باللّه.
وفى الطرف الآخر، الذي يحارب التوسل ويعاديه، يجد المرء نفسه أنه في حرب حقيقية، وأن عليه أن ينتصر فيها بأى ثمن، وأن يضرب في الجبهة المعادية له بأى سلاح، وإذا هو من حيث لا يدرى يضرب في وجوه الأنبياء والأولياء والصالحين أنفسهم، ولا يسأل نفسه ماذا جنى هؤلاء الكرام من عباد اللّه من جناية، حتى يرميهم بما يرميهم به.. من استخفاف بهم، وتطاول على مقامهم الكريم.
إن الدعوة بالرفق والحسنى في هذا المقام، أليق بالإنسان، وأنجح لدعوته، وأسلم لدينه، إن كان أمره في هذا قائما على النصح للّه ولرسوله وللمؤمنين، فلا خير في داع يدعو إلى الخير، ثم يعود آخر المطاف بمحصول وفير من الوزر والإثم!.
وأيّا كان الأمر، فإن الذي ينبغى أن يكون في يقين المسلم دائما هو التوقير والولاء لأنبياء اللّه، وأوليائه، والصالحين من عباده، وألا يدخل شيء من الضيم على ولائه وتوقيره لهم، ما يجنيه عليهم غيرهم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} وقد عبد النصارى المسيح بن مريم، واتخذوه إلها من دون اللّه، ومع هذا فمقامه عند اللّه عظيم، لم ينله شيء مما جنى أتباعه من ضلال وكفر.. وكذلك ينبغى أن يكون ولاؤنا له على قدر تلك المنزلة العظيمة التي جعلها اللّه له بين عباده المكرمين.
فإذا بالغ المبالغون منا، وغلا المغالون فينا، ونظروا إلى الأنبياء والأولياء والصالحين، تلك النظرة التي يأخذها عليهم المقتصدون، ويتهمهم بها في دينهم المتهمون- فذلك كله ينبغى أن يكون بمعزل عن مقام هؤلاء المكرمين من عباد اللّه، من رسله، وأنبيائه، وأوليائه.. واللّه يقول الحق، وهو يهدى السبيل.


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)}.
التفسير:
وهذه لفتة أخرى للمؤمنين، إذ يرون فيها أهل الكفر والنفاق والفساد وما أعدّ لهم من عذاب أليم في الآخرة، بعد أن رأوا ما حلّ بهم من نكال في الدنيا.. فإذا أفلت منهم أحد من عقاب الدنيا، لم يكن له من سبيل إلى الإفلات من عذاب الآخرة، وأنه إذا دفع عن نفسه عذاب الدنيا بمال، أو حيلة، أو نحو هذا، فإنه لا دافع لعذاب اللّه الراصد له في الآخرة.
وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} هو تيئيس للكافرين من أن يخلصوا من عذاب الآخرة، ولو كان لهم ما في هذه الدنيا، وما في دنيا مثلها.
وفى وصف العذاب بأنه {أليم} ثم وصفه بأنه {مقيم} استكمال لصورة هذا العذاب، وأنه يجمع بين الألم، واستمرار هذا الألم، الذي يقيمون فيه إقامة دائمة لا نهاية لها.


{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}.
التفسير:
وإذ جاء في الآيات السابقة حكم اللّه فيمن يحادّون اللّه ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، فقد كان من المناسب أن يرد بعد ذلك حكم السرقة، وجزاء مقترفها، إذ هى ضرب من ضروب الفساد في الأرض.. ثم لأنها لم تبلغ من غلظ الجرم ما بلغت الجرائم السابقة، فقد خرجت من هذا الحكم العام لتلك الجرائم، وأفرد لها هذا الحكم الخاص بها.
والمرأة والرجل سيّان في الحدّ الواجب على السارق، وهو قطع يده اليمنى، من مفصل الرسغ، وذلك لأن اليمنى غالبا هى التي يستخدمها السارق في السرقة، فكان قطعها عقوبة له، وكأنه في نفس الوقت عقوبة لليد التي سرقت! وشرط إقامة الحدّ في السرقة، أن يكوون المسروق مالا مقوّما شرعا.
فسرقة الخمر والخنزير لا قطع فيها، وأن يكون هذا المال محروزا في حرز مالكه وحفظه، فسرقة المال المتروك من غير حرز، ولا حراسة.. لا قطع فيه، ويشترط كذلك أن يكون المال ذا قيمة معتبرة.. وقد قدرها بعض الفقهاء بعشرة دراهم كما قدرها بعضهم بربع دينار.
هذا، وليس ذلك التغليظ في عقوبة السرقة قسوة من الإسلام، واستخفافا بالإنسان، واسترخاصا لوجوده كما يقول ذلك- زورا وبهتانا- من يكيدون للإسلام، ويبيّتون له مالا يرضى من القول.. وإنما ذلك العقاب هو الجزاء العادل الرحيم، إزاء هذا الجرم الشنيع، الذي يعدّه الإسلام من أشنع الجرائم، إذ هو اعتداء على حرمة الإنسان، في أعزّ ما يحرص عليه، وهو المال.
ولا بأس من أن نلفت أولئك الذين يتهمون الإسلام بالوحشية والحيوانية إلى ما جهلوه أو تجاهلوه من حكمة الإسلام، وتقديره السليم العادل لجريمة السرقة، ووزنها بالعدل والقسطاس.. بين السارق والمسروق منه.
فأولا: السرقة اعتداء خفىّ على حرمة الإنسان، واستباحة لماله الذي هو بمنزلة النفس عند صاحبه! وإذا كانت المدنيّة الحديثة قد استخفّت بهذه الجريمة، حتى استباحت سرقة الأمم والشعوب، فإن الإسلام الذي يحترم الإنسان- من حيث هو إنسان، ويرعى حرمته في دمه، وماله وعرضة، كما يقول نبى الإسلام: «كل المسلم على المسلم حرام.. دمه، وماله، وعرضه»- فإن الإسلام لا يستخفّ بهذه الجريمة، بل يضعها موضعها بين الجرائم الغليظة، ولا تأخذه رحمة فيمن لا يرحم الناس، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} [252: البقرة].
وهذا الحدّ الذي فرضه الإسلام لقطع يد السارق، هو بعض ما يدفع اللّه به الناس، بعضهم بعض، وهو بعض فضله على عباده.
وثانيا- ليس القطع في السرقة في مطلق السرقة، أىّ سرقة، بل لا بد من توافر شروط تتم بها أركان هذه الجريمة الموجبة للقطع، وهذه الأركان هى:
(1) أن يكون المسروق شيئا ذا قيمة- أي له اعتبار في حياة الناس الاقتصادية.. وكانت هذه القيمة تقدر في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم بربع دينار- أي ثلاثة دراهم-.
وهذا النصاب الموجب للقطع، يقدّر في كل زمان ومكان بحسب قوته الشرائية بالنسبة لعصر النبوة. والمعتبر في هذا هو أنه مال له قيمته، وله أثره، سواء أكان نقدا أو ما يقوّم بالنقد.
(2) أن تقع السرقة في مال محروز، أي أن السارق يسرقه من حرز، فالمال الضائع، والثمر الذي يكون على الشجر بلا حائط يحيط به، والماشية التي لا راعى عندها، ونحو هذا، لا يقام على السارق حد فيه، ولكن يعزّر ويضاعف عليه العرم.
(3) ما أخذ بالفم من ثمر على شجر، وأكل، ولم يحمل منه شىء- لا قطع فيه، ولا تعزير. ومن احتمل شيئا غير ما أكل فعليه ضعف ثمنه، ويضرب نكالا له، وزجرا لغيره.
(4) السرقة في أوقات المجاعات ليس فيها قطع.
(5) هناك ظروف وأحوال يراها ولىّ الأمر، ويقدّرها، في حال السارق، وظروفه، فيعزّره ولا يقطع يده، حيث تلوح له أية شبهة يدفع بها الحدّ، فقد روى عن أميّة المخزومي رضى اللّه عنه، قال: أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بلصّ قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما إخالك سرقت؟» قال بلى (أي سرقت) فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجىء به، فقال له النبي الكريم: «استغفر اللّه وتب إليه» فقال: أستغفر اللّه وأتوب إلى اللّه.. فقال نبىّ الرحمة: «اللهم تب عليه» ثلاثا.. أي قال النبىّ ذلك الدعاء ثلاث مرات.
(5) يجوز لصاحب المال المسروق إذا ضبط السارق أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فقد روى أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم، قال لصفوان ابن أميّة وقد جاء ليشفع فيمن سرق رداءه أي رداء صفوان: «هلّا كان ذلك قبل أن تأتينى به؟».
وقوله تعالى: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} هو عزاء لهؤلاء الذين اقترفوا جريمة السّرقة، سواء أقيم عليهم الحدّ فيها، أو أفلتوا من إقامة الحدّ.
وليس عزاء كهذا العزاء الذي يقدمه اللّه إليهم، وقد أفسدوا إنسانيتهم بهذا الجرم الذي ارتكبوه، فجاءهم هذا العزاء في صورة دعوة كريمة من رب كريم، يدعوهم فيها إلى جناب رحمته ومغفرته، إذا هم أرادوا أن يلوذوا بهذا الجناب الكريم، وأن يستظلوا به، وذلك بأن يستشعروا الندم عن جرمهم، وأن يبرءوا إلى اللّه منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، فإنهم إن فعلوا قبل اللّه توبتهم وغفر لهم ذنبهم: {ومن يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو إلفات للطائعين والعاصين جميعا، وأنهم كلهم في قبضة اللّه، يعذب من يشاء منهم جزاء ما ارتكب من إثم، وقارف من ذنب، ويغفر لمن يشاء، فضلا منه وكرما.. فهو القادر على كل شىء، والمالك لكل شى ء!
وفى تقديم العذاب هنا على المغفرة- نظر.. إذ كانت رحمة اللّه تسبق غضبه وعذابه أبدا: ولكن إذ كان الموقف هنا موقف محاسبة للمذنبين، ثم مغفرة ورحمة لمن تاب ورجع إلى اللّه منهم- كان ذكر العذاب مقدّما على ذكر المغفرة بالنسبة لهم، ولو تقدمت المغفرة على العذاب هنا لما كان لعقاب المذنبين- مع سبق الرحمة- مكان، ولشملتهم الرحمة قبل أن يؤخذوا بجرمهم، ويقام الحدّ عليهم، وإلا لسقطت الحدود، واضطرب نظام المجتمع! فكان تقديم العقاب أخذا لحق اللّه وحق العباد أولا، ثم تجىء مغفرة اللّه ورحمته، فتمحو آثار هذا العقاب وتعفّى عليه، لمن وجّه وجهه إلى اللّه، وطلب الصفح والمغفرة.
وقدّم السارق على السارقة.. لأن الرّجل أجرأ من المرأة على السرقة، وأكثر تمرسا بها.. كما قدّمت المرأة على الرجل في جريمة الزنا، في قول اللّه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} لأن هذه الجريمة لا تتم إلا بالرجل والمرأة معا، والمرأة هى صاحبة الموقف هنا، وبيدها الأمر فيه، لأن الرجل طالب وهى مطلوبة، فإذا لم تعطه نفسها، ولم تمكنه منها فاته مطلوبه ولم تقع الجريمة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11